
الفدائي أحمد يروي لـ"أمد" تفاصيل لأول مرة عن معركة "جورة الذهب"..
جنين: عائلة غنيم.. إرثٌ فلسطيني برقيني حُفر بالدم وقُيّد بأسوار السجان

أمد/ جنين- صافيناز اللوح: حفروا اسم الوطن في عقولهم قبل قلوبهم، وتجرعوا الفدائية من أب مناضل أسير يقبع خلف قبضة السجان، وتربوا على يد أمٍ اشترت تراب الوطن لتدفن أبناءها شهداء فداءً له، وعاشوا في منزل طاردهم الاحتلال فيه متشبثين برصاص بنادقهم ومتمسكين بالرجولة، "محاربون.. فدائيون.. عشقوا السمراء وطلقاتها"، فاستقبلهم الموت بزفة الشهداء والسجن بقيود الاعتقال والأراضي المسيجةً بملاحقة محتل ظالم وأعوانه.
فادية محمد غنيم 53 عاماً، زوجة الأسير سامي محمد أمين غنيم 58 عاماً، ضابط في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني، ووالد الفدائي والجريح أحمد، والأسير شادي، والشهداء محمد ونور.
والد الشهداء والأسرى والجرحى، هو أسير يقبع في سجن مجدو حكم عليه إدارياً لمدة 6 أشهر، وهو محرر سابق اعتقل بعام 2003 ولمدة 5 أعوام تنقل فيها بين سجني مجدو والنقب.
أبو شادي الضابط في الأمن الفلسطيني، هو حكاية الأب الذي قدم فلذة كبده ما بين شهيد وأسير وجريح، ليقبع من أجلهم خلف اسوار السجان رافعاً رأسه عالياً ومفتخراً بهم حد عنان السماء.
اعتقال الضابط في الأمن الفلسطيني ونجله..
في السابع عشر من يناير لعام 2023، داهمت قوة من جيش الاحتلال منزل عائلة غنيم في بلدة برقين، واعتقلت الضابط سامي وتم الحكم عليه 6 أشهر إدارياً أمضى منهم قرابة الأربعة ونصف.
شادي سامي محمد غنيم 37 عاماً، متزوج ولديه 3 من الأبناء وهم: أرين 10 سنوات، وردينة 8 أعوام، ومحمد شهر، واعتقل بتاريخ 7/2/2023م، وحكم عليه إدارياً لمدة 4 أشهر وهو أحد ضباط جهاز الأمن الوطني الفلسطيني.
وأمّا عن الفدائي أحمد البالغ من العمر 37 عاماً، متزوج ولديه 5 من الأطفال وهم: ليان 13 عاماً وألين 10 أعوام، ومجد 5 أعوام وسامي عامين ونور محمد شهراً، وهو أسيراً محرراً وجريحاً نجى من الموت بأعجوبة ولم يلحق بركب اخوته الاثنين الشهداء بتاريخ 26 يناير لعام 2023م.
محمد البالغ من العمر 34 عاماً متزوج، وهو الشهيد الذي سطر اسمه مؤسساً لـ"كتيبة برقين" التي ضمت فدائيين من سرايا القدس وكتائب الأقصى، حيثُ ارتقى قمراً برفقة شقيقه الشهيد نور 22 عاماً ومحمد صبح "الشقي" و 7 من الشهداء بمجزرة نفذتها قوة خاصة من جيش الفاشية اليهودية في منطقة جورة الذهب بمدينة جنين، وينتهى المطاف بالشاب أمين 31 عاماً وهو المتبقى بين جدران هذا المنزل المناضل.
تأسيس كتيبة برقين: الشهيد محمد الداعم الأساسي وأحمد قائدها..
لم يكتمل حلم محمد الذي استشهد في معركة جورة الذهب، كان يسير في شوارع بلدة برقين يشاهد صوراً للشهداء ثم يذهب إلى حيثُ سكنه في الداخل المحتل، ليعمل ويكسب المال، لكنه وضع نصب عينيه بعد تواصله الدائم مع قادة كتيبة جنين، فقرر تأسيس كتيبة برقين وهي البلدة التي يمر منها جيش الاحتلال ليقتحم مخيم جنين ويغتال شبان في عمر الورود.
محمد الذي تعهد بالوقوف في وجه هذا الاحتلال، سانده اخوته الاثنين أحمد ونور وشكلوا كتيبة برقين التي بدأت عملياتها بسلاح "الكارلو" البسيط وعبوات محلية الصنع التي كان يصنعها الشهيد نور الأصغر سناً والأكثر شراسةً، برفقة أحمد الذي صمد في وجه الجيش الذي لا يقهر وحتى اليوم يقف شامخاً ولا يهاب، وبدعم من القيادي في حركة الجهاد ومسؤولها في الضفة الغربية طارق عز الدين الذي تم اغتياله فجر الثلاثاء التاسع من مايو الجاري.
وعلى ذات الطريق انضم محمد صبح الملقب بـ"الشقي"، ورافق الأشقاء الثلاثة في طريقهم، وسار على نهجهم ودربهم، والتحق بالكتيبة البرقينية، التي خاضت معارك وعمليات اطلاق نار عنيفة ضد جيش الاحتلال في مدينة جنين ومحيطها.
وبعد استشهاد المحمدين ونور، قاد أحمد الذي هرب من الموت بأعجوبة، وكتب له حياة جديدة ليستمر في ذات الطريق التي بدأها مع رفيق دربه شقيقه الشهيد محمد.
أحمد الذي يخوض اليوم أشرس الطرق، ويسير في صعاب المعارك، فدائي مطارد متعلق قلبه بالسمراء وطلقاتها، ومتمسك بحب الوطن وقدسه وأقصاه.
وعلى ذات الشوكة، وعلى ذات الطريق، وعلى ذات الحكاية، لا زال الفدائي أحمد مؤسساً وقائداً عاماً لكتيبة برقين، ليلحق بركبه عدداً من الفدائيين الذين أحبوا هذه الطريق، وأحبوا الوطن ووهبوه أرواحهم.
يقول أحمد لـ"أمد": كتيبة برقين كانت النور الذي أبصر به محمد، ونحن سرنا في طريقه، ومستمرون على نهجه، ولن نتخلى عنه، مهما كلفنا الثمن، فوصية محمد لن تنكسر، والعهد الذي أخذته سأمضي به قدماً حتى أحقق ما تمنوه أخوتي الشهداء".
ويضيف الفدائي البرقيني، أعلم نهاية هذه الطريق، وأعلم ما الذي يحيط بنا، وما الذي يخططونه للقضاء علينا، ولكنني لن أتراجع سأستمر حتى الرمق الأخير، وسأبقى على طريق المحمدين ونور.
وشدد، تعرضت ولا زلت لأصعب المواقف، وعشت أسوأها، ومررت بتحديات لم ولن يتحملها أحد، ولكنني لا زلت هنا وسأستمر، منوهاً "لا يوجد أمامي سوى هذا الطريق، لن أخذل أخوتي الشهداء، ولن أحيد عن طريقهم هذه، هو قرار الرجال لا تراجع عنه".
يوم استشهاد الرفاق واغتيال 11 شهيداً..
منزل من طابقين اجتمع فيه عدد من الفدائيين، تحصنوا بين رصاص السمراء البسيطة، حاربوا أعتى المدرعات العسكرية، والجيش الذي وصف نفسه بأنه لا يقهر، ولأكثر من 5 ساعات دون استسلام، فجن جنون جيش الفاشية اليهودية، ليقوم بقصف منزلهم بالطائرات ليستشهدوا جميعهم عدا الفدائي العنيد أحمد، الذي روى لـ"أمد" تفاصيل مثيرة لأول مرة حول عملية "جورة الذهب".
يقول الفدائي المطارد للاحتلال الإسرائيلي: يوم الخميس الـ(26) من يناير الماضي، تواجدت مع محمد ونور والشقي، ونحن مطاردون للاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من عامين ونصف، واشتد علينا الخناق في الفترة الأخيرة، وكنا نعلم أنّ الاحتلال يخطط لاغتيالنا، خاصة بعد اعتقال والدي من منزلنا ليكون وسيلة ضغط علينا بتسليم أنفسنا له، وطلب من شقيقي الشهيد نور تسليم أنفسنا خلال 72 ساعة وإلا سيتم قتلنا ولكننا رفضنا.
ويضيف الفدائي لـ"أمد"، اجتمعنا في منزل لعائلة الشهيد علاء أحمد الصباغ الساعة السادسة صباحاً، فدخلت برفقة محمد وبقي نور ومحمد الشقي ينتظرونا خارج المنزل، وكنا نتجهز لتناول الإفطار فحينها سمعنا صوت نور يصرخ "جيش.. قوات خاصة"، وسمعنا صوت إطلاق نار كثيف فبدأ الشقي الاشتباك مع القوة الخاصة التي حاصرتنا بعد تسللها بسيارة مدنية إلى المنطقة.
ويتابع لـ"أمد"، استشهد في لحظة الاشتباك محمد "الشقي"، واشتبكنا جميعنا مع القوة وانتهى الرصاص بحوزة شقيقي نور حيثُ أطلق النار عليه فاستشهد على الفور، فبقيت أنا ومحمد وحينها نادى علينا جنود الاحتلال بمكبرات الصوت "سلموا أنفسكم"، ولكننا رفضنا واشتبكنا مع جيش الاحتلال في الطابق الأول من المنزل، ثم صعدنا إلى الطابق الثاني فحاول عدد من الجنود الدخول علينا واشتبكنا معهم وأصبت أنا ومحمد برصاص في الصدر والرجل والحوض، فآنذاك احتمى محمد بزاوية من السلم الخاص بالمنزل فتم قصفه بقذيفة انيرجا بشكل مباشر واستشهد على الفور.
وأوضح، صعدت على الطابق الأعلى فوجدت صاحبة المنزل (ع) وهي شقيقة الشهيد علاء، فقمت بربط قدمي المصابة والتي نزفت كثيراً وجلست على سرير بإحدى الغرف وطلبت من الفتاة وزياد الخروج من المسلم والاستسلام حتى لا يتم استشهادهم، فخرجوا وأطلق جيش الاحتلال النار على زياد، ورفضوا خروج الفتاة من المنزل وطالبوها بالعودة للحديث معي لتسليم نفسي، فقلت لنا "اطلعي وخبريهم أنا هطلع وراكي".
وشدد الفدائي، عندما وصلت الفتاة وزياد عند نهاية الشارع توقع الجيش خروجي ولكنني لم أنوي الخروج من البداية، وأخبرت الفتاة الخروج حتى لا تتعرض لأي أذى، منوهاً: اشتبكت مع قوات الاحتلال من جديد وانتهت ذخيرتي وأخذت سلاح شقيقي محمد واستمريت بالاشتباك فقرر جيش الاحتلال قصف المنزل وتجريفه بالجرافات ولكن بقدرة الله نجوت وصعدت على سطح المنزل، وحينها فقدت الوعي لا أعلم المدة، وفقت على صوت الناس داخل المنزل فتأكدت أن الجيش قد انسحب.
ويكمل، بدأت بالصراخ على الناس، وسمع أحد الشباب صوتي وصعدوا إلى سطح المنزل وحملوني على أكتافهم وبدأو بالتكبير لأنني لا زلت على قيد الحياة، ولا أعلم بعدها ماذا حدث فوجدت نفسي على سرير المستشفى.
ويتحدث الفدائي لـ"أمد"، حقد هذا المحتل لم يكتفِ بقتل أخوتي والمجزرة التي ارتكبها، بل قام بقصف المنزل واشتعال النيران فيه، واحتراق جثث الشهداء.
هرب من المستشفى ليحتضن قبور رفاقه الشهداء..
بعد 5 أيام، أفاق الفدائي المطارد من غيبوبته اثر اصابته برصاص جيش الاحتلال، فبدأت بالسؤال على اخوتي وسألت عن الساعة فقالوا لي الساعة الآن الواحدة والنصف، فقلت لهم "يعني لسا ما دفنتوهم بدي أشوفهم"، فسكتوا جميعا والحزن على وجوههم، فطلب منهم أن يأخذوني إلى الجنازة وحينها قالو لي أنني كنت في غيبوبة وأنه تم دفن أخوته منذ 5 أيام.
"غادر أسرّة المستشفى هرباً ليرى قبور أشقاءه" الذين خاضوا معه أشرس المعارك معاً، وذهب إلى المقبرة ليجد آنذاك الشهيد محمد خلوف، الذي كان يلقى نظرات الوداع في أيامه الأخيرة قبل استشهاده برصاص جيش الاحتلال بتاريخ 7/3/2023م، ليجد أحمد قبراً مفتوحاً فسأل خلوف عنه فأجابه: "هذا القبر قبرك الكل قال انك استشهدت"، وبعد شهر ونصف استشهد محمد وتم دفنه بهذا القبر.
انتقل الفدائي أحمد غنيم إلى عدة مستشفيات في مدينة جنين، لتلقي العلاج بعد إصابته الحرجة، خوفاً من قيام جيش الاحتلال اقتحام المستشفى واعتقاله، كونه المطلوب الأول له بعد استشهاد أشقاءه في بلدة برقين.
رسائل من قلب الوجع..
لا كلمات تخرج من حنجرة الجريح الذي فقد أخوته أمام عينيه، ولكن يأبى الفدائي الحر الصمت فتحدث وإن كان بوجع، عن رسالة أشقاءه الشهداء التي نادوا بالوحدة الوطنية بها دوماً، والتماسك في صد عدوان هذا المحتل على شعبنا الفلسطيني، وحماية الأقصى والقدس، والدفاع عن الوطن.
وفي رسالةٍ عبر "أمد للإعلام"، وجهها الفدائي أحمد غنيم للكل الفلسطيني، بأن يكونوا يداً واحدة في وجه هذا المحتل الغاصب، حتى الوصول إلى التحرير.
ويقول الفدائي غنيم، لقد قدمنا أرواحنا ولن نستسلم، فنحن على عهد الشهداء وعلى عهد المحمدين ونور وخلوف ومساد وعلاونة وكل شهداء برقين وجنين وفلسطين.
إذن.. أم شادي التي اتصل عليها ضابط بجيش الاحتلال طالباً منها أن تأتي إلى المنزل الذي تحصن فيه أبناءها الفدائيين لتقنعهم بالاستسلام لجيش الاحتلال قبل قتلهم، لتذهب بقلب الأم الذي بكى حرقةً على أبناءها وفلذات كبدها وبدقات قدميها التي اخترقت حاجز الصوت علّها تستطيع أن توقف نزيف أجساد شبابها الذين صنعت منهم رجالاً كتبوا اسمهم بسجل التاريخ الفدائي وحفروا صورهم أيقونةً حاولت أن تصل إلى الحرية وفي منتصف الطريق زرعوا أرواحهم وروداً لتنير الطريق لمن بعدهم.